إعداد : حمزة اليوسفي
مقدمة:
إن الأصل أن يكون للمتعاقدين الحرية التامة في مناقشة شروط العقد على قدم المساواة ويتم تحديد مضمون العقد بصفة متوازنة بين الطرفين دون الخضوع لحاجة ملحة أو ضرورة ويترك لكل متعاقد الحق في أن يقبل أفضل الشروط بالنسبة له, غير أنه توجد عقود لا تخضع لهذه القاعدة حيث يستقل أحد المتعاقدين بوضع شروطه مسبقا وإملائها على المتعاقد الاخر ولا يكون لهذا الأخير سوى أن يقبلها كلها أو أن يرفضها كلها ,وهنا يعتبر القبول مجرد تسليم بالشروط الموضوعية مقدما دون مناقشة وهذا ما يطلق عليه في القواعد العامة بعقد الإذعان، والذي أصبح يمثل الطريقة العادية للتعاقد في عقود الاستهلاك وأغلبها عقود محررة مسبقا.
وبناء على ما سبق يمكن القول أن عامل تقدير محتوى العقد يعتبر العنصر الأساسي عند تحديد مفهوم عقد الإذعان بالإضافة إلى مجموعة من الخصائص التي تتسم بها هذه العقود (الفقرة الأولى)، وبه يتم التمييز بين طرفي العقد وتحديد القوي فيه من الضعيف، مما يعني أن وجود عنصر الإذعان من عدمه يقارن بمدى وجود القدرة على مناقشة الشروط العقدية من عدمها، فإن لم توجد هذه القدرة كنا بصدد عقد الإذعان،[1] وعلى هذا الأساس اختلف الفقهاء حول تحديد الطبيعة القانونية لعقود الإذعان (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: خصائص عقود الإذعان
تتميز عقود الإذعان عن غيرها من العقود بمجموعة من الخصائص والمميزات التي تنفرد بها باعتبارها عقودا تحرر من جانب الموجب (أولا) حيث يوجهها للعموم (ثانيا)، فما يكون لهم إلا الإذعان لهذه العقود نظرا لأهمية السلع والخدمات المقدمة (ثالثا) ولكون الموجب محتكرا لها (رابعا)، وتبعا لذلك يكون الموجب ملزما بالاستجابة إلى القبول (خامسا).
أولا: انفراد الموجب بتحرير العقد بشكل مسبق
غالبا ما يكون عقد الإذعان معدا بصفة مسبقة في صيغة مطبوعة تحتوي على شروط مفصلة لا تجوز فيها المناقشة[2]، وهي بمثابة عقود نموذجية ينفرد الموجب بوضع تفاصيلها، مستمدا موقفه هذا من تفوقه الاقتصادي والتقني، الشيء الذي يجعله والزبون في وضعية غير متكافئة ومتناقضة، على اعتبار أن الأول له دراية وحنكة بموضوع العقد، والثاني لا يهمه من العلاقة إلا الآثار القانونية والاجتماعية للعقد.[3]
وبالإضافة إلى ذلك فإن المستهلك في عقد الإذعان ما هو إلا أحد الزبناء الكثر، وبالتالي يستحيل على صاحب المحل أو من يقوم مقامه ان يناقش شروط العقد مع كل مستهلك على حدة.[4]
ثانيا: صدور الإيجاب إلى الجمهور
يكون الإيجاب موجها إلى الناس كافة، وبشروط واحدة وعلى نحو مستمر، أي لمدة غير محددة،[5] وبما أن الشروط متماثله بالنسبة للعموم فإن هذا من شأنه أن يتضمن فرصا متكافئة بين جميع المتعاقدين المحتملين، خاصة وأن شروط العقد تلك مستمدة من دراسة معمقة ومتعددة الجوانب جعلت واضعوها يتحرون بجدية قبل عرضها على الجمهور مخافة الطعن فيها بالتعسف أو الغموض، وبالتالي يفتحوا المجال للقضاء لتأويلها وتفسيرها بما يخول الحق للمذعن في أن يطالب بالإعفاء من جل شروطها المتسمة بالغلو؛[6]
ثالثا: أهمية السلعة أو الخدمة بالنسبة للمذعن
تتعلق عقود الإذعان بسلعة معينة أو مرفق يقدم خدمات للمجتمع لا يستطيع الجمهور الاستغناء عنها في حياتهم دون أن يمسهم الأذى والضيق، حيث يحتاج إليها حاجة ماسة، كالماء والكهرباء والغاز …إلخ؛[7]
رابعا: احتكار الموجب للسلع والخدمات
احتكار الموجب لتلك السلع أو المرافق أو المنافع احتكارا قانونيا أو فعليا، وبالتالي يجب أن لا يكون للموجب منافس في تقديم الخدمة أو السلعة للعموم، كشركات الأنترنت و التأمين والمحروقات؛[8]
حيث جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية رقم 608 بتاريخ 22 أبريل 1954، ما يلي: “من خصائص عقود الإذعان أنها تتعلق بمرفق أو سلع تعتبر من الضروريات بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين، ويكون فيها احتكار الموجب هذه السلع أو المرافق احتكارا قانونيا أو فعليا أو تكون سيطرته عليها من شأنها أن تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق، وأن يكون صدور الإيجاب إلى الناس كافة وبشروط واحدة، والمدة غير محددة”.
خامسا: إلزام الموجب بالاستجابة إلى القبول
إن كون الموجب محتكرا للسلعة أو الخدمة لا يعطيه الحق في رفض القبول إلا لسبب مشروع، وإلا كان رفضه تعسفا في استعمال الحق؛[9]
الفقرة الثانية: الطبيعة القانونية لعقود الإذعان
ظهرت عقود الإذعان كنتيجة لاحتكار بعض المرافق العامة احتكارا قانونيا أو فعليا، فقد أصبحت هناك شركات تحتكر خدمة من الخدمات الضرورية للمجتمع حيث يضع المحتكر العقود التي تبرم بشأن هذه الخدمات دون قابلية تعديل شروطها، وما على المتعاقد الآخر إلا أن يقبل هذه الشروط كما وردت، وعندها يكون متعاقدا، فالإرادتان في مثل هذه العقود ليستا متساويتين، بحيث أن إرادة المحتكر تملي وإرادة المشترك ترضخ.[10]
و يرجع السبب في اختلاف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية لعقود الإذعان إلى الطريقة التي يتم بها اتفاق الإرادتين، حيث انقسم الفقهاء إلى قسمين أساسيين، إذ ذهب توجه فقهي إلى اعتبارها عقودا حقيقية تتم بتطابق إرادتي طرفيها، فيما يرى توجه آخر أنها ليست عقودا وإنما هي بمثابة قانون يفرضه الطرف المحتكر على جماعة المتعاقدين معه.[11]
أولا: عقود الإذعان هي نظام قانوني
ذهب فقهاء القانون العام إلى كون عقود الإذعان ليست عقودا حقيقية، حيث ردوا ذلك إلى أن القبول في هذه العقود هو مجرد إذعان ورضوخ، أما العقد فهو عبارة عن توافق إرادتين عن حرية واختيار، ولهذا تعد عقود الإذعان أقرب إلى كونها قانونا ألزمت شركات الاحتكار الناس باتباعه، وبالتالي يجب تفسيرها كما يفسر القانون، ويراعى في تطبيقها مقتضيات العدالة وحسن النية، وينظر فيها إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضعت لتنظيمها.[12]
فإذعان الطرف الآخر لا يرقى ليعتبر عنصرا تأسيسيا في تكوين العقد، وإنما ركنا احتياطيا أو بيانا تكميليا لتنفيذ العقد من طرف من قام بإعداده، ومن ثم فإن عقود الإذعان ليس لها من الصبغة التعاقدية إلا الاسم،[13] وقد شبه رواد هذا الاتجاه القبول في عقد الاذعان بمصادقة رئيس الدولة في النظام البرلماني على القوانين التي صوت عليها البرلمان، وبالتالي فإن هذه المصادقة هي ليست مساهمة في إصدار القوانين، وإنما هي شرط مكمل لإرادة المشرع.[14]
وعليه فإن عقد الإذعان هو عبارة عن مركز قانوني منظم تنشئه إرادة منفردة يصدرها الموجب مع الأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة والضرورات الاجتماعية فتكون بمثابة قانون أو لائحة، أو عقد انضمام ينبني عن الإرادة المنفردة، ولا يكون القبول إلا شرطا مكملا لإرادة الموجب،[15] مما يبعد وصف العقد عنه لما يفترض في هذا الأخير من التساوي بين أطرافه وكذا حريه إبرامه.[16]
وبالتالي، فإن منح بعض أشخاص القانون الخاص سلطة التنظيم يجعل عقد الإذعان أقرب إلى المركز القانوني المنظم، ومن ثم وجب أن يفسر كما يفسر القانون، وقد ترسخ هذا الاعتقاد لدى المستهلك وهو يتلقى هذه العقود المعدة سلفا بحيث لا يميز بين النصوص التشريعية أو التنظيمية وبين الوثائق التعاقدية التي تصدرها شركات الاحتكار من حيث كونها تفرض عليه فرضا.[17]
وبناء على ما سبق فإنه لا جدوى للبحث عن إرادة الأطراف، ذلك أن الإرادة الموجودة هي إرادة المحتكر، وبالتالي لا يمكن تسميتها عقودا، بل هي مراكز قانونية منظمة.[18]
ثانيا: عقود الإذعان هي عقود حقيقية
يعتبر فقهاء القانون المدني أن عقود الإذعان تتم بتوافق إرادتين، وتخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود، لأن القانون لا يشترط في تكوين العقد أن تسبقه مناقشة أو مفاوضة أو مساومة بين طرفيه.[19]
ومهما قيل من أن أحد العاقدين ضعيف أمام الآخر، فإن هذه ظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية، إذ أن المساواة القانونية متحققة فيها والتراضي متوافر فيها، والطرف المذعن يدخل فيها برضاه دون إجبار أو إكراه أو إلزام، أما كونها قد تشمل على شروط تعسفية أو آثار مجحفة لصالح الطرف الموجب، فإن ذلك لا ينفي عنها صفة العقد، ولكنه يستدعي تدخل المحكمة بتعديل أو إلغاء ما تضمنته من جور أو تعسف، كما أن ما يبرر تدخل القضاء لحماية الطرف الضعيف هو استغلال الضعف لا الضعف في حد ذاته.[20]
كما أن عقود الإذعان هي نتاج إرادتين، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار دور الطرف المذعن في إبرامها، كون الإذعان في حد ذاته قبولا، وأما الإشكال فهو إشكال مصطلحات، ذلك أننا نتكلم عن الإذعان عوض الحديث عن القبول، بل الإذعان هو تعبير عن الإرادة، أو هو طريقة عملية للقبول.[21]
وبالإضافة إلى ذلك فإن الطرف المذعن ليس مجبرا على التعاقد، بل إن بعض عقود الإذعان كعقد التأمين لا تنمحي الإرادة فيه بصفة مطلقة، بل يترك مجالا خ
صبا للمؤمن له أن يناقش الشروط الخاصة لعقد التأمين، ونوعه ومدته والجهة المستفيدة، كما أنه في باقي العقود يمكن للمذعن المحتمل قبول شروط التعاقد كما أملاها الموجب، أو رفضها جملة، إلا أنه إذا قبلها فإن هذا القبول لا يمكن أن يعتبر وليد الرهبة أو التدليس أو الغلط التي كان ضحيتها الطرف المذعن.[22]
وزيادة على ذلك، فان صحة العقود لا تستند الى ضرورة وجود إرادتين متساويتين من الناحية الاقتصادية أو النفسية، وإنما جعلت التشريعات المقارنة الرضا ركنا من أركان العقد، بالإضافة إلى الأهلية والمحل والسبب، والشكلية في العقود الشكلية، والتسليم في العقود العينية، ويكون الرضا صحيحا إذا جاء خاليا من العيوب المنصوص عليها قانونا، ومن ثم نخلص إلى أن القانون يتطلب لصحة العقد تساوي الإرادتين من الناحية القانونية ليس إلا، مع مراعاة ما قد يقرره فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد بعض العقود.[23]
وإنه مما لا شك فيه، فإن أكثر العقود يتحقق فيها ما نراه في عقود الإذعان من خضوع واضطرار أحد الطرفين أو كليهما للتعاقد، فعدم التوازن العقدي لا يمكن توقيه، بل إنه أقل ضررا في عقود الإذعان منه في العقود الأخرى، فهو يسري بالنسبة لعقود الإذعان على كل المتعاقدين من الطرف القوي، وإيجابه معروض على الكافة دون استثناء، مما يجعل موضوع الغلط أو التدليس نادر الوقوع[24]، ثم إن العقد لا يفترض وجود مساواة بين الأطراف المتعاقدة بالضرورة، كما أن انعدام المساواة لا ينفي الصفة التعاقدية عن العقود.[25]
خاتمة:
وختاما، يمكن القول أن عقود الإذعان أضحت من أبرز تجليات اختلال التوازن بين طرفي العقد بحكم الوضعية الاقتصادية والتقنية لكلاهما وكذا الاحتكار الذي يستفيد منه الموجب بالعقد، ويتجلى أساسا في المعاملات ذات الطابع الاستهلاكي لا سيما المنتجات والخدمات الضرورية لحياة المستهلكين كالاستفادة من خدمات الكهرباء والتأمين إلى آخره في معظمها ذات طابع احتكاري والعقود المبرمة بشأنها تتسم في غالبها بالإذعان.
لائحة المراجع
- العربي مياد، “عقود الإذعان – دراسة مقارنة”، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالرباط، الطبعة الأولى 2004
- جيلالي بن عيسى وبنقردي أمين، “عقود الإذعان بين اختلال الالتزامات التعاقدية والحماية القانونية للمذعن”، مقال منشور بمجلة الأكاديمية للبحوث في العلوم الاجتماعية، المجلد 1، العدد 1، ديسمبر 2019
- يمينة بليمان، “عقود الإذعان وحماية المستهلك”، مقال منشور بمجلة العلوم الإنسانية، المجلد 30، العدد 2، ديسمبر 2019
- يوسف أمين حمدان، مقال تحت عنوان “عقد الإذعان”، منشور بمجلة المحاماة، بتاريخ 14 ديسمبر 2020، بموقع: https://egyls.com/عقد-الإذعان/
- ملاك بنت محمد السديسي، “عقود الاذعان في الفقه الاسلامي”، مقال منشور بمجلة كلية دار العلوم، العدد 142، سبتمبر 2022
- نزيه كمال حماد، “عقود الإذعان في الفقه الإسلامي”، بدون طبعة
[1] يمينة بليمان، “عقود الإذعان وحماية المستهلك”، مقال منشور بمجلة العلوم الإنسانية، المجلد 30، العدد 2، ديسمبر 2019، الصفحة 106
[2] يوسف أمين حمدان، مقال تحت عنوان “عقد الإذعان”، منشور بمجلة المحاماة، بتاريخ 14 ديسمبر 2020، بموقع: https://egyls.com/عقد-الإذعان/، تاريخ الاطلاع: 26/11/2023، على الساعة: 11:30
[3] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 51
[4] العربي مياد، “عقود الإذعان – دراسة مقارنة”، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالرباط، الطبعة الأولى 2004، الصفحة: 6
[5] ملاك بنت محمد السديسي، “عقود الاذعان في الفقه الاسلامي”، مقال منشور بمجلة كلية دار العلوم، العدد 142، سبتمبر 2022، الصفحة: 306
[6] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 52
[7] نزيه كمال حماد، “عقود الإذعان في الفقه الإسلامي”، بدون طبعة ، الصفحة: 57
[8] نزيه كمال حماد، مرجع سابق، الصفحة 57
[9] يمينة بليمان، مرجع سابق، الصفحة 106
[10] جيلالي بن عيسى وبنقردي أمين، “عقود الإذعان بين اختلال الالتزامات التعاقدية والحماية القانونية للمذعن”، مقال منشور بمجلة الأكاديمية للبحوث في العلوم الاجتماعية، المجلد 1، العدد 1، ديسمبر 2019، الصفحة: 4
[11] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 6
[12] نزيه كمال حماد، مرجع سابق، الصفحة: 56
[13] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 13
[14] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 11
[15] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 11
[16] جيلالي بن عيسى وبنقردي أمين، مرجع سابق، الصفحة: 5
[17] يمينة بليمان، مرجع سابق، الصفحة 106
[18] يمينة بليمان، مرجع نفسه، الصفحة 106
[19] نزيه كمال حماد، مرجع سابق، الصفحة: 57
[20] جيلالي بن عيسى وبنقردي أمين، مرجع سابق، الصفحة: 5
[21] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 17
[22] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 17
[23] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 20
[24] يمينة بليمان، مرجع سابق، الصفحة 107
[25] العربي مياد، مرجع سابق، الصفحة: 18
تعليقات فيسبوك