حمزة اليوسفي
مقدمة:
يعتبر العمل وسيلة تفريغ الإنسان لإبداعاته ومهاراته حيث بواسطته يضمن استمراريته وبقاءه، وهو حسب ابن خلدون الميزة الأساسية التي تتحقق بها إنسانية الفرد والمجتمع، فتطور تجربة الإنسان العملية وتطويره لأدوات الإنتاج أدى إلى ضرورة تقنين العلاقات الاجتماعية عن طريق وضع قوانين تحكم هذه العلاقات.
ويعتبر قانون الشغل أو القانون الاجتماعي حديث النشأة بالمقارنة مع غيره من فروع القانون الأخرى، إذ لم يبدأ اهتمام الدول به إلا مع بداية القرن 19 وما عرفه من أحداث، وخصوصا الثورة الصناعية في أوروبا وما نتج عنها من تقدم صناعي، وفي عصرنا الحالي نلاحظ أوضاعا مختلفة وظروف شغل ومتنوعة ناتجة عن التطوارت الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم.
وقد حاولت عدة دول القضاء على الآثار السلبية التي تصاحب تطور العلاقة الشغلية، وذلك بوضع قوانين تلائم العصر، وقد كان المغرب من الدول السباقة التي أخذت بالنظم القانونية المدنية الحديثة بحكم موقع الجغرافي المتميز، واتجاهه إلى تحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمارات والاهتمام بمختلف القطاعات الاقتصادية، ولما صاحب ذلك تزايد النزاعات بين الأجراء والمشغلين، فرض على المشرع المغربي التقليل من نسبتها من أجل تحقيق الأمن القانوني والاجتماعي على حد سواء والرقي بالاقتصاد الوطني.
وتعتبر علاقات الشغل الفردية هي الأساس في العملية الإنتاجية، حيث أن العلاقات التعاقدية التي تنشأ بين الأجير وبين صاحب العمل هي المرحلة الأولى من مراحل الإنتاج، وبالتالي فإن كانت هذه العلاقة مبنية على أساس سليم متسم بحسن النية استقرت علاقات الشغل، أما إذا كانت هذه العلاقة غير مبنية على أساس سليم فإن ذلك يؤدي إلى نشوء نزاعات بين طرفي علاقة الشغل، ويقصد بهذه الأخيرة كل خلاف يقوم بين الأجير وصاحب العمل بمناسبة أو بسبب تنفيذ عقد الشغل لإخلال أحدهما بالتزام من الالتزامات المحددة في العقد أو عدم امتثاله لنص قانوني أو تنظيمي.
ونظرا لأهمية العلاقات الشغلية الفردية وكثرة النزاعات المترتبة عنها وضع المشرع المغربي مجموعة من الآليات القانونية بغية فض هذه النزاعات سواء الإدارية منها أو القضائية.
فبالنسبة للآليات الإدارية فتتمثل في جهاز تفتيش الشغل الذي يختص بتسوية نزاعات الشغل الفردية بطريقة ودية دون اللجوء إلى القضاء، والمتمثلة في مسطرة الصلح التمهيدي.
وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق تمهيدي أو أن الأجير لم يسلك مسطرة الصلح، يتم اللجوء إلى المسطرة القضائية والتي خصها المشرع المغربي بنظام إجرائي يتميز عن مختلف المساطر القانونية الأخرى، حيث أقر المشرع المغربي إلزامية الصلح القضائي قبل الحكم والفصل في النزاع.
وقد لا تسفر مسطرة الصلح التمهيدي أمام العون المكلف بتفتيش الشغل عن أية نتيجة أو لا يتم اللجوء إليها أصلا من قبل الأجير الذي يفضل عرض النزاع القائم بينه وبين المشغل على المحكمة مباشرة، والتي يتعين عليها أن تقوم بإجراء محاولة التصالح بين الأطراف فنكون والحالة هذه بصدد صلح قضائي، حيث يتم خص المشرع المغربي المسطرة القضائية بنظام إجرائي يتميز عن مختلف المساطر القانونية الأخرى، إذ أقر إلزامية الصلح القضائي قبل الحكم والفصل في النزاع.
وتبرز أهمية هذا الموضوع في كونه يساعد على تحديد أحد أهم الخصوصيات المسطرية المتعلقة بنزاعات الشغل الفردية، والتي تأتي بعد اللجوء إلى القضاء والبت في موضوع النزاع.
ومن خلال ما سبق يمكننا أن نستشعر أن المشرع المغربي دائما ما يحاول الحفاظ على الطابع الاجتماعي لقانون الشغل من خلال سعيه وراء الحفاظ على علاقة الشغل، ويظهر ذلك جليا من خلال مسطرة الصلح التي تعتبر من الخصوصيات المسطرية التي تتسم بها النزاعات الاجتماعية، فما مدى نجاعة مسطرة الصلح القضائي في تسوية نزاعات الشغل الفردية؟
وللإجابة عن الإشكالية أعلاه سنقوم بمعالجة هذا الموضوع وفق التصميم التالي:
الفقرة الثانية: إجراءات الصلح القضائي
الفقرة الثانية: آثار الصلح القضائي
الفقرة الأولى: إجراءات الصلح القضائي
غالبا ما تبوء محاولة إجراء الصلح في نزاعات الشغل الفردية بالفشل، فأغلب المحاكم لا تلجأ إليه، إذ تكتفي فقط بالإشارة إلى فشل محاولة الصلح في الأحكام الصادرة عنها حتى لا تتعرض لإلغاء من طرف محاكم الدرجة الثانية، أو النقض من قبل محكمة النقض.
أولا: مدى إلزامية إجراء الصلح القضائي
تعتبر مسطرة الصلح القضائي مسطرة إلزامية، إذ تقوم المحكمة أولا ولزوما بمحاولة للتصالح بين الطرفين، حيث نص الفصل 277 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي: “يحاول القاضي في بداية الجلسة التصالح بين الأطراف”
وهذا ما أكدته محكمة النقض في العديد من القرارات، حيث جاء في أحد قراراتها ما يلي: “حيث يعيب العارض على الحكم المطعون فيه في الفرع الثالث من الوسيلة الأولى بخرق قاعدة مسطرية أضرت به، ذلك أن المحكمة وهي تبت في قضية شغل لم تطبق مقتضيات الفصل 277 من قانون المسطرة المدنية، حيث نص الفصل المذكور على أن القاضي يحاول في بداية الجلسة التصالح بين الأطراف، وحيث إنه لا يوجد في الحكم المطعون فيه، ولا من بين وثائق الملف ما يفيد أن القاضي قام بالإجراء المذكور، الشيء الذي يتعرض معه الحكم المذكور إلى البطلان”[1]
إلا أن هذه الإلزامية تقتصر فقط على المرحلة الابتدائية دون مرحلة الاستئناف، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض في أحد قراراتها: “ومن جهة أخرى فإن مقتضيات الفصل 277 من قانون المسطرة المدنية تخص المحاكم الابتدائية، هذه الأخيرة أجرت مسطرة الصلح بين الطرفين وباءت بالفشل، فتبقى الوسيلة بجميع فروعها على غير أساس”.
وجاء في قرار آخر: “حيث إن الفقرة الأخيرة من الفصل 287 من قانون المسطرة المدنية لم تنص على تطبيق مقتضيات الفصل 277 أمام محكمة الاستئناف كما فعلت بالنسبة للفصلين 275 و 276، ولأن محاولة التصالح إنما تجري بواسطة قاضي الدرجة الأولى”
وفي قرار آخر كذلك: “لكن حيث إن إجراء محاولة التصالح تتم أمام القاضي الابتدائي لا أمام محكمة الاستئناف، وفيما يخص الحكم الابتدائي فإنه نص على تعذر تحقيق التصالح بين الطرفين، مما يؤكد أن محاولة التصالح قد تمت ابتدائيا ولم تأتي بالنتيجة وبذلك فالوسيلة لا أساس لها”.
وقد اعتبر المشرع هذا الإجراء من النظام العام وأوجب أن يشار في الحكم الصادر في القضية إليه وذلك علاوة على البيانات المنصوص عليها في الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية.
ثانيا: الإشهاد على عقد الصلح
لا يعتبر الحكم الصادر عن القضاء بالإشهاد على عقد الصلح المبرم بين الأجير والمشغل سوى عقد وثقه القاضي في حدود سلطته الولائية، وليس بمقتضى سلطته القضائية، فالمحكمة عندما تقوم بذلك إنما تقوم بوظيفة الموثق الذي يثبت حصول هذا الصلح أمامه بصفه رسمية، وبالتالي فهذا التصديق على الصلح ليس سوى عقد ولا يحوِّله إلى حكم، حيث يعطيه فقط الصفة الرسمية، فيصير رسميا بعد أن كان عرفيا، ولا يُطعن فيه إلا بالطرق المقررة للطعن في العقود الرسمية لا بالطرق المقررة للطعن في الأحكام.
ومادام القاضي عند إشهاده على عقد الصلح المبرم بين الأجير والمشغل لا يقوم بوظيفة الفصل في الخصومة بل يقتصر على إثبات ما حصل أمامه من اتفاق، هذا الأخير لا يعدو أن يكون سوى عقد ليست له حجية الشيء المقضي به، وإن كان يعطى شكل الأحكام عند إثباته.
الفقرة الثانية: آثار الصلح القضائي
لا يخرج الأمر عند القيام بإجراء الصلح القضائي عن أحد فرضيتين عالجها المشرع بنوع من التفصيل وحدد أحكامها بدقة، فإما أن يتم التوصل إلى الصلح، وإما أن يبوء الصلح بالفشل.
أولا: نجاح التصالح
تتعلق هذه الفرضية بالحالة التي يعبر فيها كل طرف عن توافقه مع الآخر طالبا الإشهاد له بالصلح، حيث تعمل المحكمة بعد تصريح الطرفين أمامها بوقوع الصلح على الإشهاد عليه بأمر نهائي لا يقبل أي طعن، وذلك وفق ما جاء به الفصل 278 الذي نص على ما يلي: “تثبت في حالة التصالح شروط الاتفاق طبقا للطرق التالية:
– يثبت الاتفاق في النزاعات المتعلقة بالشغل أو الخلافات الناشئة بين المشغل والأجير بمقتضى أمر؛
– يثبت الاتفاق في قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية بأمر يتضمن تاريخ وقوع الحادثة وتاريخ الشروع في الانتفاع بالتعويض أو الإيراد وجميع العناصر المستعملة لتقدير التعويض أو الإيراد طبقا للشروط المنصوص عليها في التشريع المعمول به، ويبين في حالة مراجعة الإيراد اشتداد خطورة العاهة أو نقصانها ؛
– يثبت الاتفاق في قضايا الضمان الاجتماعي حسب الحالة بمحضر أو إذا كان النزاع يرجع إلى تعويضات أو معاشات فبأمر يتضمن بيان جميع العناصر المستعملة لتقدير التعويضات أو المعاشات المذكورة طبق الشروط المنصوص عليها في التشريع المتعلق بالضمان الاجتماعي.
إن إثبات الاتفاق بمحضر أو أمر يضع حدا للنزاعات وينفذ بقوة القانون ولا يقبل أي طعن”
وتأسيسا على مضمون الأمر بالصلح يقوم الأطراف بالوفاء بالتزاماتهم المضمن به وعند عدم تنفيذها رضاء فإن الملزم يجبر قضاء على الوفاء بمضمنها من غير حاجة إلى استصدار حكم تنفيذي، فقد أعطى المشرع لهذا الأمر قوة تنفيذية بحيث يجري التنفيذ الجبري للحق المضمن به من غير حاجة إلى استصدار حكم قضائي بذلك بل تذيل مباشرة بالصيغة التنفيذية.[2]
ثانيا: تعذر تحقيق التصالح
ينص الفصل 279 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي: “إذا تعذر تحقيق التصالح لاختلاف الأطراف أو لعدم حضور أحدهم أو ممثله أمكن للقاضي البت في الحال.
إذا تخلف المدعي عن الحضور ولم يقدم عذرا مقبولا شطب على قضيته وإذا تخلف المدعى عليه بت القاضي بحكم غيابي أو بمثابة حضوري حسب الأحوال”.
و من خلال الفصل أعلاه يتبين أن هذه الفرضية تتحقق بتحقق حالتين:
- اختلاف الأطراف
في حالة حضور الطرفين للجلسة ورفضهما كل عروض الصلح يطبق الحكم المنصوص عليه في الفصل 279 من قانون المسطرة المدنية، حيث يتم إقفال مسطرة الصلح ويبت القاضي في النزاع.
- عدم حضور أحد الأطراف
أ. إذا تخلف المدعي دون عذر مقبول شطب عن القضية؛
ب. وأما إذا تخلف المدعى عليه أمكن للقاضي البث في الحال بحكم غيابي أو بمثابة حضوري حسب الأحوال.
خاتمة:
يرجع حرص المشرع المغربي على تنظيم علاقات الشغل وخاصة الفردية منها، نظرا لأهمية هذه العلاقة المتميزة، مما يعكس قناعة وأهمية وغاية المشرع وراء صياغته للمقتضيات القانونية المتعلقة بالشغل، كما يمكن ملاحظة أن المشرع لم يهمل أحد أطراف عااقة الشغل سواء المشغل أو الأجير حيث نجد أن جل القواعد الرئيسية التي تقوم عليها مدونة الشغل، وبشكل أدق الفصول التي تناولت مسطرة الصلح القضائي لم تقم بتميز أي طرف على حساب الآخر، بل جاءت من أجل حل الخلافات التي قد تنشأ فيما بين المشغل والأجير، ويتجلى ذلك عند اللجوء إلى أنجع الوسائل التي تحل النزاعات بشكل حاسم وهي المسطرة القضائية، والتي تضع ضمانات قانونية لكل من أطراف النزاع.
لكن إذا كانت مسطرة الصلح القضائية من الوسائل الكلاسيكية لحل النزاعات الفردية المثارة بين المشغلين والأجراء، فإن هناك وسائل أخرى يمكن اللجوء إليها من قبيل التحكيم والوساطة الاتفاقية.
[1] قرار محكمة النقض عدد 530، صادر بتاريخ 19 أكتوبر 1987، منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 55 مايو 1988، الصفحة 105
[2] وفاء جوهر، “قانون الشغل بالمغرب، عقد الشغل الفردي بين النظرية والتطبيق”، مكتبه المعرفة ،مراكش، الطبعة الأولى ،2018، الصفحة 244
تعليقات فيسبوك